وصف المدون

اليوم

INFOGRAT - فيينا:
ألقيت بجسدى المنهك على الكرسى الذى يتوسط الغرفة، ضربات قلبى تتسارع وأنفاسى مضطربة، قطرات من عرق تسيل على جبهتى وكأننى أنهيت لتوى سباقًا ماراثونيًا، ملأت صدرى بالهواء فى محاولة منى لتهدئة أنفاسى المتهدجة ولكنى شعرت بأن الغرفة أصبحت فجأة خالية من الهواء، اتجهت ناحية نافذة الغرفة، وما إن فتحتها حتى اخترقت صدرى دفقات شرسة من هواء قارس البرودة كادت أن تتجمد رئتى على إثرها، الأمطار تنهمر دون هوادة والشوارع تكاد تخلو من روادها، تتحول ظلمة الليل فجأة إلى نور يخطف الأبصار وتزمجر السماء بأصوات تهز الأبدان.. كاذب من تشدّق بجمال هواء فيينا وروعته، فها هو الشتاء لم يبدأ بعد وأنا أشعر بزمهرير البرد ينخر عظامى، أغلقت النافذة ثم اتجهت صوب المدفأة التى تتوسط حائط الغرفة وألقيت فى جوفها بعض الحطب، اقتربت بكل جسدى من النار التى أخذت تستعر وتعالى لهيبها حتى سرى الدفء فى أوصالى، هاجمتنى جيوش من ذكريات مشتتة ولمحات خاطفة من ماضى أقسم أن لا يعود، اعتمل فى داخلى حديث صاخب يكسر حدة الصمت من حولى.. لا الصمت يُريحنى، ولا صخب الذكريات يرضينى.

من حلب إلى فيينا.. رواية لـ محمود فريد

أحيانًا يكون للصمت ضجيج يهز الوجدان، ولكن يظلّ صخب الذكريات سمًا قوى المفعول يفتك بالأرواح.

اشتقت إلى هواء حلب والمشى تحت أمطارها التى كانت تغمرنى بقطراتها المفعمة بالحب، ومثل طفل صغير ترتسم الابتسامة على وجهى فى حبور أركض وأقفز تحت ماء المطر، وأشعر بها تغسل ما بداخلى من هموم، أفتقد التجول فى شوارعها التى لا تنام وأزقتها الضيقة التى تحمل بين أحجارها عبق التاريخ البيزنطى والسلجوقى وصولًا إلى عهد المماليك والعثمانيين، اشتقت إلى مساجدها التى صلّيت بها، وكنائسها التى وجدت الله فيها، ومعابدها التى اختليت بنفسى بين جدرانها، أحنّ إلى السير فى الحانات والأسواق المتلاصقة فى تناسق يشهد عليه التاريخ والذى جعل من حلب متحفًا شُيدت جدرانه فى الهواء الطلق، ما بين خان الشونة وسوق العطارين أحتسى الشاى وأدخن النرجيلة، أسير بين الدكاكين أتأمل وجوه البائعين التى تحمل الكثير من الحزن خلف ابتسامات لا تفارق شفاههم، تعتلى وجوههم نظرات يملؤها أمل فى رزق منتظر من السماء يسد جوع بطونهم وأفواه ذويهم، ذكريات تحتاج عمرًا بأكمله لسردها ولن تنتهى، أيام رغم كل ما كانت تحمله من فقر ويأس، حزن وكآبة، إلا أنى أشتاق إلى لحظة واحدة من لحظات تلك الأيام التى ولّت وكأنها مجرد حُلم عابر، أو أن يعود بى الزمن فلا أغادر حلب رغم كل ما تعرضت له.


خرجت من حلب سعيًا وراء حرية تم سلبها منى عنوة، وحياة جديدة أستعيض بها عن حياتى التى طُمست ملامحها جرّاء ما اقترفه أبناء وطنى غير الشرعيين، ولكنى اكتشفت بأنى كنت واهمًا، وأن خروجى من حلب كان مجرد انتقال من سجن إلى سجن أكبر بلا أسوار، ظاهره فيه الحرية وباطنه عذاب وشقاء، وما أقسى عذاب النفس وشقاء الروح، فعذاب الجسد يبلى وجروحه تندمل أمّا جروح النفس فلا تلتئم وثقوب الروح لا تُرقع.

آه يا وطن لعنته ألف مرة وتمنيت الفرار منه آلاف المرات، استجاب القدر إلى لعناتى واستمع إلى أمنياتى فتحقق الوعد المشئوم، لفظتنى الأرض التى ولدت على أرضها وترعرعت تحت سمائها حتى أصبحت جزءًا من كينونتى.. فى ليلة لا قمر فيها خرجت من حلب خائفًا وأنا أترقب، ضعيفًا وأنا أتوكأ، مقهورًا وأنا أتلكّأ، خرجت منها خالى الوفاض لا أعلم أين المفر؟ وإلى أين المستقر؟ وماذا يحمل لى القدر فى نهار قادم أو حتى بعد لحظات!

أرهقنى البُعد وأنهكتنى الحياة وفاضت روحى بأحزان تنوء بحملها جبال الشام، هل من عودة ولو سيرًا على الأقدام؟، أفترش تراب أرضك الندى وأتدثر به، أغتسل بماء مطرك النقى وأتطهر به ثم ألتحف بسمائك الحانية وأغوص فى نوم عميق أفتقده.

مقطع من رواية «من حلب إلى فيينا»، القائمة القصيرة لجائزة ساويرس

وكالات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة

Back to top button