تتوالي قصص نجاح اللاجئين السوريين من خلال عشرات المشاريع الناشئة من ألمانيا إلى تركيا مرورا بمصر وهنغاريا وفرنسا وغيرها من بلدان للجوء. ومن فيض هذه القصص على سبيل المثال أن لاجئا سوريا نجح بإقامة أول مصنع للجبنة الشامية "الجبنة المشللة، وجبنة السوركه" في جنوب غرب ألمانيا بولاية زارلاند. وفي العاصمة برلين لوحدها أنشئت 200 شركة ومشروع تجاري من قبل لاجئين سوريين خلال السنوات الثلاث الماضية.
ولا تشمل هذه المشاريع صناعة الحلويات والمعجنات الشامية والحلبية والحمصية فقط، بل أيضا الديكور والموضة والخياطة وغيرها. وفي باريس أقام لاجئون من سوريا أول مصنع لإنتاج أنواع من صابون الغار الحلبي الشهير. أما في مصر فنشأت بفضل لاجئين سوريين مدينة صناعية متكاملة تركز على صناعة الأنسجة والأقمشة الدمشقية والحلبية العريقة باستثمارات لا تقل عن مليار دولار. وفي تركيا هناك حديث عن "ثورة في الاستثمارات السورية" التي تشكل حاليا نسبة 14 بالمائة من مجمل الاستثمارات الأجنبية في تركيا وتغطي مختلف القطاعات الصناعية والتجارية وفي مقدمتها الألبسة والأحذية والمواد الاستهلاكية اليومية. أما في بودابست فقد أقامت عائلة غراوي "ملك الشوكولاته" مصنعا وضع المجر على خارطة الشوكلاته العالمية الفاخرة باللوز الحمصي والفستق الحلبي. وفي لبنان تذهب تقديرات غير رسمية إلى أن الأموال السورية المودعة في البنوك اللبنانية ارتفعت من 20 إلى 25 مليار دولار بفعل الحرب السورية.
أوجه اللجوء متعددة
عندما يجري الحديث عن اللاجئين السوريين وخاصة في بلدان الجوار فإن مخاطبة الرأي العام تركز على معاناتهم من جهة وعلى كونهم عبئاً على بلدان اللجوء من جهة أخرى. ومع الإقرار بالعبء الكبير الذي تحملته بلدان مثل لبنان والأردن، لاسيما وأن إمكانات كليهما ضعيفة، وبالدور الذي لعبته بلدان مثل ألمانيا على صعيد استقبال وإنقاذ ملايين اللاجئين وصرف المليارات على استقبالهم، فإن الأوجه الأخرى لميداليات اللجوء تبقى خارج محاور الاهتمام. ومن هذه المواضيع على سبيل المثال أن أن ثلث اللاجئين السوريين من أصحاب الشهادات والكفاءات والمهارات العالية والمتوسطة الجيدة منها إلى الممتازة. كما أن فئة من هؤلاء نخبة من رجال الأعمال التمرسين في إنتاج سلع وبضائع دمشقية وحلبية يعود تاريخها إلى مئات وأحيانا إلى آلاف السنين. وقد ورث بعض هؤلاء المهنة أبا عن جد على مدى الأجيال المتلاحقة. ومن هذه السلع على سبيل المثال أقمشة الدامسكو والبروكار وصناعة الأساس المنزلي والموزاييك الدمشقي والحلبي والصابون والأنسجة والقائمة تطول.
النجاح والبلدان المستضيفة
مما لا شك فيه أن اللاجئين السوريين تحمّلوا خلال أزمة وطنهم المستمرة منذ ثمانية أعوام أشياء لا يمكن تصورها من المآسي والآلام. رغم ذلك فإن بعضهم يتحدى ظروف اللجوء القاسية وينهض كالعنقاء من تحت الرماد" لبناء مستقبله من جديد والمساهمة في نمو ونهضة البلدان التي استضافتهم من خلال تنويع المنتجات وزيادة الطلب واستخدام تكنولوجيا جديدة وتطويرها. ويساهم هذا النهوض أيضا في نقل الإنتاج السوري إلى مزيد من الأسواق العالمية. أما الأدلة على ذلك فتأتي من عشرات البلدان التي وصل إليها لاجئون سوريون أقدم قسم منهم على إقامة مطاعم ومصانع ومشاغل ومخابز وغيرها. ويقبل الناس بكثرة في هذه البلدان على المنتج الشامي أو الحلبي العريق. وهذا ما تؤكده على سبيل المثال تقارير ومعلومات شبه يومية عن إقبال الألمان الشديد على المأكولات الشامية وإقبال المغاربة على الحلويات السورية التي تنتشر في المدن المغربية الكبيرة بسرعة. ويتحدث السودانيون عن "غزو المأكولات السورية" لعاصمتهم وعادات طبقتهم الوسطى.
ماذا بالنسبة للوطن الأم؟
هذا بالنسبة لبلدان اللجوء، أما بالنسبة للوطن الأم فإن لجوء خمسة ملايين سوري إلى الخارج خلال سنوات الأزمة يعني نزيفا هائلا في العقول والكفاءات والخبرات ورؤوس الأموال. ومما يعنيه ذلك نزوح أكثر من مليون ونصف المليون من هذه الكفاءات خلال أقل من ثمان سنوات. كما يعني إغلاق عشرات آلاف المؤسسات والشركات التي كانت أحد أعمدة الاقتصاد السوري ومصدر اكتفاء شبه ذاتي للسوق السورية من مختلف السلع الاستهلاكية والأدوية. غير أن تعزيز حضور المنتجات السورية في الخارج عن طريق اللاجئين يرفع مستوى جودتها وخبرات أصحابها بفضل التقنيات والمعارف المكتسبة في بلدان الاغتراب. كما أن الحضور الواسع للمنتجات ورجال الأعمال السوريين عالميا يمكن أن يساهم بعد نهاية الأزمة السورية في إعادة إعمار سوريا وفي نهضة الاقتصاد السوري مجددا. ويعزز هذا الرأي حقيقة أن قسما هاما من اللاجئين السوريين الناجحين في ألمانيا وغيرها يرغبون بالعودة إلى وطنهم بسبب ارتباطاتهم العائلية واستمرار وجود مؤسساتهم أو قسم منها فيه وخاصة في مدينتي دمشق وحلب . غير أن هذه العودة مرتبطة بحل سياسي يوفر بيئة تعددية وديمقراطية جاذبة للاستثمارات ولمختلف الأعمال ومتطلباتها. وهنا لا بد من التذكير بأن نهضة كل من الصين والهند وفيتنام خلال العقود الثلاثة الماضية قامت بفضل قدرتها على إعادة قسم من مغتربيها من مختلف بلدان المعمورة.
DW
شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة